إن جداريات أصيلا الفنية تظل كرسوم تزين الجدران، لكنها في الوقت نفسه نبض حضاري يتجدد سنوياً، وحوار أبدي بين الفنان والمكان، بين الريشة والجدار، بين الإبداع والتاريخ. تقف مدينة أصيلا المغربية شامخة على ضفاف المحيط الأطلسي، تحتضن بين أسوارها العتيقة تقليداً فنياً فريداً امتد لأكثر من أربعة عقود ونصف. هذه الجداريات التي انطلقت عام 1978 مع بداية الموسم الثقافي الدولي لأصيلة، تحولت اليوم إلى رمز ثقافي يميز هذه المدينة البيضاء الأطلسية، جاعلة منها متحفاً مفتوحاً في الهواء الطلق يستقطب الفنانين والزوار من جميع أنحاء العالم.
جداريات أصيلا الفنية: البداية والتطور
تُعتبر جداريات أصيلا الفنية الأرضية الأساسية التي انطلق منها موسم أصيلة الثقافي الدولي، قبل أن يتفرع هذا الموسم إلى أنشطة وبرامج متنوعة شملت مؤتمرات وندوات وملتقيات تناولت جوانب إبداعية وفنية وسياسية ودبلوماسية. كما يؤكد الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، حاتم البطيوي، فإن هذا العمل الفني الرائد انطلق سنة 1978 ولم يتوقف منذ ذلك الحين إلى اليوم.
إن فلسفة جداريات أصيلا الفنية تعود إلى بدايات الموسم الثقافي الدولي، حيث كرست ثقافة الإبداع داخل الفضاء المفتوح وبين الجمهور. هذا التقليد الفني السنوي جعل سكان أصيلة يقبلون ويتقبلون بشغف هذه الجداريات، بل ويحافظون عليها، لأنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المشهد البصري للمدينة.
الحرية الإبداعية كمفتاح النجاح
يكمن جوهر جمالية جداريات أصيلا الفنية في تنوع مواضيعها والتقنيات المستعملة فيها، وترك الحرية لخيال الفنان لاختيار الأشكال والألوان التي من خلالها يحول جداراً أصم إلى لوحة تنضح إبداعاً وتسلب عين الزائر. كما يوضح التشكيلي عبد القادر المليحي، منسق الجداريات: “موضوع الجدارية حر، إذ يشتغل الفنان بكل أريحية وتلقائية، حسب حواره مع الجدار، هي وصفة النجاح وخصوصية الموسم في أصيلة منذ 45 سنة.”
هذه الحرية في الإبداع تضفي على الجداريات تنوعاً رائعاً وتجعل مدينة أصيلة متحفاً مفتوحاً أمام السكان والزوار على السواء. إن حرية الاختيار هي التي تجعل الجداريات تعكس خصوصية واختلاف وغنى كل جيل من الفنانين المشاركين على مدى الدورات الماضية.
أصيلا الفنية: مشاركة دولية وتنوع ثقافي
تشهد جداريات أصيلا مشاركة فنانين من مختلف أنحاء العالم، حيث يلتئم في كل دورة فنانون من مشارب وآفاق مختلفة. في الدورة الأخيرة، شارك 16 فناناً من المغرب ومن الخارج، بما في ذلك فنانين من سوريا وإسبانيا وفرنسا ورومانيا ولتوانيا، فضلاً عن مبدعين من مختلف المدن المغربية.
يصف الفنان السوري خالد الساعي، الذي شارك للمرة العاشرة في جداريات أصيلة، تجربة الجداريات بـ”المهمة” في مسار الفنان، لأنها تجربة إبداع مباشر أمام الجمهور. ويضيف أن “المرور بمهرجان أصيلة هي شهادة إبداع لكل فنان يأتي إلى المدينة للتزود بالمعرفة والفن والحب ويبحث عن التألق.”
جداريات أصيلا الفنية: إشراك الأطفال والبراعم
من خصوصيات الجداريات إشراك البراعم واليافعين في رسم الجداريات، حيث تُبرمج ورشة خاصة لأطفال المدينة للتعبير بالريشة والألوان. هذه المبادرة تغرس ملكة الإبداع منذ السنوات الأولى للطفل، وتُكسبهم الثقة في النفس وتقنيات الرسم والتشكيل.
كما تشير الفنانة التشكيلية كوثر الشريكي، منسقة ورشة الطفل منذ سنوات عدة: “طفل أصيلة يتغذى بالفن منذ الصغر، حيث يتشربه من خلال الجداريات المرسومة على جدران المدينة القديمة.” إن إشراك الأطفال في الجداريات ليس مجرد ترف فني، بل هو مقاربة متكاملة تعمل مؤسسة منتدى أصيلة على تفعيلها منذ عقود من أجل تربية النشء على الإبداع والثقافة والثقة في النفس.
جداريات أصيلا الفنية: التأثير على الحركة التشكيلية المغربية
لقد جعلت تجربة أصيلا الفنية خلال أربعة عقود ونصف هذه المدينة الأطلسية تضطلع بريادة الحركة التشكيلية بالمغرب. فتجربة الجداريات والمحترفات الدولية للنحت وغيرها من الفعاليات حولت المدينة إلى متحف مفتوح، أسوارها جداريات وأروقتها وساحاتها محترفات ومعارض.
يعتبر التشكيلي عبد القادر المليحي أن “إخراج الفن من الأروقة للشارع مبادرة مهمة للغاية لأنها تجعل الزائر يتذوق الفن في حياته اليومية، كما تحول المدينة إلى متحف في الهواء الطلق.” هذا الأمر مهم للتربية الفنية والتشكيلية كما يدفع المشاهد إلى تقدير العمل والتفاعل معه.
جداريات أصيلا الفنية: شهادات من الفنانين المشاركين
تتنوع شهادات الفنانين المشاركين في جداريات أصيلا التشكيلية، حيث تعكس تجاربهم الشخصية وانطباعاتهم عن هذه التجربة الفريدة. لمياء بلول، الفنانة التشكيلية من الدار البيضاء، التي شاركت للمرة الثانية بعد مشاركة أولى سنة 2021، تؤكد أن “التراث الفني لأصيلة يبعث على الاعتزاز لأنه يغرس حب الفن ويشجع على ممارسته في نفوس الأطفال الصغار.”
من جانبه، يبرز الفنان خالد الساعي، أحد أوفياء موسم أصيلة لمشاركته فيه لأزيد من 10 مرات، أن كل جدارياته تتناول موضوعاً مختلفاً وإن جمع بينها المغرب. فقد اشتغل سابقاً على زلزال الحوز، وهذه المرة على اهتمام المغرب بالبيئة والتنمية المستدامة، مع إبراز الحرف العربي كثابت في جدارياته.
جداريات أصيلا الفنية: تجديد المشهد البصري للمدينة
إن جداريات أصيلا الفنية تتجدد باستمرار، لتتجدد معها روح المدينة ورونقها. بعد أن يعيش الأصيليون سنة كاملة مع رسوم تزين أحياءهم، يألفون التمعن في تفاصيلها كل صباح، يمنحون في عام آخر لمبدع آخر قادم من بلاد بعيدة، فسحة للرسم على ذات الجدار تبعاً لتصوره الخاص ولإحساسه بجماليات هذه المدينة.
يوقع كل فنان لوحته، ليضاف اسمه إلى سجل المبدعين الذين عبروا هذه المدينة وتركوا فيها بصمتهم. فهذا المعرض التشكيلي المفتوح في الهواء الطلق يتجدد باستمرار، لتتجدد معه روح المدينة ورونقها، وتنزع عنها ثوب جدارياتها القديمة، متألقة في رسوم جداريات أخرى لرسامين عالميين مبدعين.
جداريات أصيلا الفنية: الأهداف والرؤية المستقبلية
إن الهدف من إنجاز جداريات أصيلا الفنية يتمثل في خلق جو جمالي وبيئي وصحي لأطفال المدينة ولسكانها وزوارها. كما يؤكد حاتم البطيوي، فإن موسم أصيلة راهن منذ انطلاقته على الأطفال “من أجل تكوين جيل من المبدعين في كافة المجالات، حيث الكثير من هؤلاء صاروا إعلاميين وتشكيليين وفنانين وممثلين.”
الجداريات هي المبدأ ولن تكون هي المنتهى. هكذا يسعى موسم أصيلة الثقافي الدولي إلى العودة إلى المنطلق الفني لهذه التظاهرة، من أجل البحث عن انطلاقة جديدة تضمن استمرارية فعالية ثقافية وفكرية لطالما كانت منارة للحوار والتبادل بين فناني ومفكري العالم.
مدينة أصيلا المغربية: جوهرة أطلسية عريقة
تقع مدينة أصيلا على الساحل الأطلسي شمال المغرب، على بعد حوالي 46 كيلومتراً جنوب مدينة طنجة. تُعرف بلقب “المدينة البيضاء الأطلسية” نسبة إلى لون جدرانها البيضاء الناصعة التي تعكس أشعة الشمس وتتناغم مع زرقة المحيط الأطلسي.
تتميز أصيلا بتاريخها العريق الذي يمتد لقرون عديدة، حيث تُظهر الآثار الأثرية وجود استيطان بشري منذ العصور القديمة. احتلها البرتغاليون عام 1471م وأكسبوها طابعاً تحصينياً، فتسامقت أسوارها وعلت أبراجها العسكرية، وطوقت المدينة نفسها بالبحر ومخازن البارود.
الدور والأزقة في هذه المدينة أقيمت بنفس أندلسي موريسكي طافح، يحيل على تفاصيل حضارة شبه الجزيرة الإيبيرية. تتميز عمارتها بالبساطة والجمال، حيث تطل البيوت البيضاء على الأزقة الضيقة المرصوفة بالحجارة، وتزدان بأبواب خشبية ملونة تضفي على المدينة طابعاً فنياً مميزاً.
وفي عرف سكان أصيلة، ليست صنوف الفن المختلفة ترفاً يميل إليه كل شغوف أو مولع بجمالياتها فحسب، بل إن الفن يدخل في صميم حياتهم، ويؤثث مخيالهم الجمعي ويكسبهم انتماء “أصيلاً” لأصيلة. فالجدران الخارجية لبيوت المدينة القديمة مشرعة في وجه الرسامين من أبناء المدينة نفسها، الذين يبادرون إلى تحويل الواجهات الخارجية لبيوتهم إلى لوحات فنية معبرة، فيما أزقة أصيلة تضج جنباتها بالخطاطين ورسامي البورتريهات الذين يكسبون قوتهم مما تصنعه أناملهم من إبداعات.
لقد أصبحت أصيلة اليوم مدينة الفنون بامتياز، مدينة ارتكزت على الثقافة لتحقيق التنمية بفضل عمل دؤوب لمؤسسة منتدى أصيلة. إنها مدينة تجدد موعدها سنوياً مع جداريات صارت جزءاً من الهوية البصرية لهذه المدينة الأطلسية، حيث تتحول في كل صيف إلى ملتقى للفنانين والمفكرين والمثقفين من جميع أنحاء العالم، مؤكدة مكانتها كعاصمة ثقافية وفنية متميزة على خارطة المغرب والعالم العربي.